مفهوم
الضريبة في الفقه الإسلامي:
مقدار محدد من المال تفرضه الدولة في أموال الممولين؛ لضرورة طارئة مستندة في ذلك إلى قواعد الشريعة العامة، دون أن يقابل ذلك نفع معين للممول، تستخدمه الدولة في تغطية النفقات العامة للمواطنين، وتمتاز هذه الضرائب بأنها مؤقتة بالظروف التي فُرضت من أجلها، وليست تشريعًا دائمًا أصيلًا، بل هي استثنائية تنتهي بانتهاء الظروف التي استوجبتها.
أوجه الاتفاق والاختلاف بين معنى الضريبة في الفقه الإسلامي ومعناها في اصطلاح الاقتصاديين:
أوجه الاتفاق:
1- كلاهما تفرضه الدولة على سبيل الجبر والإلزام.
2- كلاهما فريضة نقدية.
3- لا يقابلها نفع معين يعود على الممول.
أما أوجه الاختلاف:
1. الضريبة في المفهوم الإسلامي تستند في فرضيتها إلى أصل شرعي من الكتاب أو السنة أو الآثار الواردة عن الصحابة، في حين أن الضريبة في المفهوم الاصطلاحي لدى علماء الاقتصاد لا تعتمد في فرضيتها على شيء من الشريعة، بل قد تفرضها على أساس نظرية سيادة الدولة، أو على أساس أن الأفراد ملزمون بحكم كونهم أعضاء في المجتمع بالمشاركة في النفقات العامة التي تقوم بها الدولة.
2. تُعتبر الضريبة في العرف الدولي موردًا من موارد الدولة الثابتة، في حين أن الضريبة من وجهة نظر الشريعة تُفرض لظروف طارئة تعجز الدولة عن مواجهتها، وليست تشريعًا أصيلًا بل استثنائيًّا.
3. الضريبة في النظام الوضعي تتصف بالديمومة، بينما في الفكر الإسلامي مرتبطة بالظروف التي من أجلها فُرضت، وليست تشريعًا دائمًا.
وبما أن الدولة الحديثة تعتبر الضرائب من الموارد الأساسية للدولة؛ فكان لزامًا علينا تبيان الموارد المالية للدولة في الإسلام حتى نستطيع تحقيق المناط في الواقعة المراد بيان الحكم الشرعي لها.
الموارد المالية للدولة الإسلامية:
1- الزكاة: وتؤخذ من المسلم من سائر أمواله؛ نقدية أو زراعية أو عروضًا تجارية إذا بلغت أمواله النصاب الشرعي المقرر، فمن ملك النصاب يجب عليه أن يؤدي زكاة ماله للدولة أو تقوم الدولة بجبايتها لتنفقها على مستحقيها، وقد جاءت فرضيتها في كتاب الله تعالى؛ حيث يقول جل وعلا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام الرازي: (ظاهر الرواية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان؛ فيدخل فيه زكاة التجارة والنقدية والنعم، لأن ذلك لما يوصف بأنه مكتسب) [التفسير الكبير، الرازي، (4/66)].
2- الخُمس من غنائم الحرب، ومما يُستخرج من الأرض من المعادن والركاز: قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخُمس) [متفق عليه، رواه البخاري، (6913)، ومسلم، (4562)].
3- الجزية: وهي ضريبة مالية تُؤخذ من غير المسلمين إذا دخلوا في ذمة المسلمين وعهدهم مع بقائهم على دينهم، يدفعونها للدولة الإسلامية نظير حماية المسلمين لهم من عدوهم وحقنًا لدمائهم، فلا يتعدي عليهم أحد من المسلمين، وكذلك نظير انتفاعهم بمرافق الدولة الإسلامية، وأما مقدارها فيجتهد فيه الإمام حسب حالة الناس المادية وظروفهم، وقد وردت شرعيتها في كتاب الله تعالى؛ إذ يقول سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
4- الخراج: ما وُضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدى عنها [الأحكام السلطانية، الماوردي، ص(186)، الأحكام السلطانية، أبو يعلى، ص(146)]، وهو جزء معين من الخارج منها؛ كالربع والثلث ونحوهما وقد يكون نصف الخارج، وهذا المورد ضريبة يفرضها الإمام على أراضي أهل الذمة بعد فتحها عنوة وإقرار أهلها عليها إن رغبوا [موسوعة فقه عمر بن الخطاب، د.محمد رواس، ص(295)].
5- العشور: وهي ما يُؤخذ من أموال التجارة، سواء كان المأخوذ عشرًا لغويًّا أو نصفه أو ربعه أو ما تأخذه الدولة ممن يجتاز بلده إلى غيره من التجار [ابن قدامة، المغني، (8/517)، موسوعة فقه عمر بن الخطاب، د.محمد رواس، ص(506)، حاشية على العناية مع شرح الهداية مع كتاب فتح القدير، سعدي جلبي، (2/170)].
وقد أصبح من موارد بيت المال في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كتب إليه أهل منبج من وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا تجارتهم أرض العرب وله منها العشر؛ فشاور عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على ذلك، فهو أول من أخذ منهم العشور.
وكذا سأل عمر المسلمين: (كيف يصنع بكم الحبشة إذا دخلتم أرضهم، قالوا: يأخذون عشر ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم) [موسوعة فقه عمر بن الخطاب، د.محمد رواس، ص(506)، الأموال، القاسم بن سلام، ص(713)].
مدى توافق هذه الموارد مع مفهوم الضريبة المعاصرة:
1-وجوه التشابه أو التوافق؛ تتفق الزكاة مع الضريبة من حيث:
أ- إن كلًّا منهما يدفعه المكلف قسرًا وإلزامًا إذا امتنع عن الدفع مختارًا، وتتضح قسرية الزكاة في التحصيل الجبري لها من الممتنع عند أدائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء) [رواه أبو داود، (1577)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (1575)]، كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل من امتنع عن دفع الزكاة.
ب- الزكاة والضريبة تُدفعان إلى السلطات المحلية.
ت- يشتركان في انعدام المقابل الخاص للممول، وإنما تُدفع منه بوصفه عضوًا في مجتمع مسلم يتمتع بحمايته وكفالته وأخوته، فعليه أن يسهم في معونة أبنائه [فقه الزكاة، القرضاوي، (2/998)].
2- أما أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة فهي كثيرة؛ منها:
من حيث الثبات والاستمرارية: فالزكاة فريضة دائمة وثابتة مادام في الأرض مسلمون يوحدون الله تعالى، لا يبطلها جور جائر ولا عدل حاكم، شأنها شأن الصلاة، وهي لا تخضع لتقنين التعديل أو التبديل أو الإلغاء، ولا تخضع لقاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" [قواعد الفقة، البركتي، ص(113)]، وإنما تخضع لقاعدة "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص" [قواعد الفقة، البركتي، ص(108)].
أما الضريبة فليس لها صفة الدوام والثبات لا في نوعها ولا مقاديرها، ولكل حكومة أن تضع من الضريبة حسب ما تراه السلطة التشريعية فيها، فهي تجب حسب الحاجة وتزول بزوالها، اقتضت فرضيتها ظروف مستجدة، فهي تكليف زمني تتحدد أحكامها تبعًا لمشيئة الوضع الحكومي [الزكاة الضريبية، غازي عناية، ص(44-45)].
من حيث تحديد المقادير في كل منهما: أن الزكاة فريضة إلهية في وجوبها ومقاديرها وأنصبتها وأوعيتها وشروطها وسائر أحكامها؛ فمقادير الزكاة من العشر، والخمس، ونصف العشر، وربع العشر، كلها مقادير من عند الله تعالى وليس لأحد أن يغير أو يبدل، بخلاف الضريبة؛ حيث تخضع في تقديرها لمشيئة الوضع الحكومي واجتهاد أولي الأمر، وإن بقاءها وعدمه مرهون بتقدير السلطة لمدى الحاجة إليها [الازدواج الضريبي، عطية صقر، ص(18)].
من حيث وجوه الإنفاق في كل منهما: فللزكاة مصارف خاصة محددة في كتاب الله تعالى والسنة النبوية، توزعها الدولة بعد جبايتها، أو يوزعها المسلم بنفسه إن شاء، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
في حين أن مصارف الضريبة ووجوه إنفاقها غير محددة، وتحكم فرضيتها المشاركة في تحمل الأعباء العامة، وتغطية أوجه الإنفاق العام، أضف إلى ذلك أن زكاة كل إقليم أو بلد مخصصة للإنفاق في نفس الإقليم أو البلد، ولا يجوز إخراجها إذا كان يوجد فيه من هو بحاجة إليها؛ فإذا فضل شيء عن حاجة فقراء البلد ومصالحهم فعندها يُنقل إلى بيت المال ليُنفق على سائر السكان، في حين أن الضريبة تعود فورًا إلى خزينة الدولة لتنفقها الدولة على ما تشاء في المصالح العامة.
حكم فرض الضريبة في الفقه الإسلامي:
انقسم الفقهاء حياله إلى فريقين، فريق قال بالجواز ولكن ليس على الإطلاق، وفريق منع من فرض الضريبة مطلقًا؛، وإليك بيان هذا الأمر:
المانعون لفرض الضرائب :
يرى هذا الفريق أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاة ماله فقد برئت ذمته، ولا يجوز بعد ذلك التعرض لما في يده من أموال دون حق، ولا يُطالب بشيء إلا أن يتطوع رغبة بالأجر من الله تعالى.
حجتهم في المنع: احتجوا لهذا الرأي بأحاديث؛ أهمها:
1- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، فقال: (تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئًا ولا أنقص منه، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) [متفق عليه، رواه البخاري، (1397)، ومسلم، (116)]، وفي رواية قال عليه السلام: (إن صدق الأعرابي؛ دخل الجنة) [رواه الترمذي، (622)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (619)]، ففي هذا الحديث أعلن الرجل أنه لا يزيد على الزكاة المفروضة ولا ينقص، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أهل الجنة.
2- روى الترمذي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أديت زكاة مالك؛ فقد قضيت ما عليك) [رواه ابن حبان، (3216)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1719)]، ومن قضى ما عليه في ماله، لم يكن عليه حق فيه ولا يُطالب بإخراج شيء آخر على سبيل الوجوب.
3- ما رواه ابن ماجة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، أنها سمعته ـ تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (ليس في المال حق سوى الزكاة) [رواه ابن ماجه، (1861)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، (1789)]، وقالوا: إن ما جاء في بعض النصوص من إثبات حقوق في المال غير الزكاة مطلوبة على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب والالتزام كما في حق الضيف، أو قالوا: بأنها حقوق واجبة قبل الزكاة، فلما فُرضت الزكاة نسخت كل حق كان قبلها [فقه الزكاة، القرضاوي، (2/967)].
4- احترام الملكية الشخصية؛ إذ أن الإسلام احترم الملكية الشخصية، وجعل كل إنسان أحق بماله، وحرم الأموال كما حرم الدماء والأعراض، والضرائب مهما يقول القائلون في تبريرها وتفسيرها ليست إلا مصادرة جزء من المال يُؤخذ من أربابه قسرًا وكرهًا.
5- الأحاديث الواردة بذم المكس ومنع العشور؛ فلقد جاءت الأحاديث النبوية بذم المكوس والقائمين عليها وتوعدهم بالنار والحرمان من الجنة، فعن رويفع بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن صاحب المكس في النار) [رواه أحمد في مسنده، (17464)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (787)].
وعن عقبة بن عامر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة صاحب مكس) [رواه أبو داود، (2939)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، (2937)، وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن عقبة بن عامر به مرفوعًا، وصححه ابن خزيمة والحاكم، (1/729)]، وعدَّ الذهبي المكس من الكبائر، وقال: (المكاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم؛ فإنه يأخذ ما لا يستحق، ويعطيه من لا يستحق) [كتاب الكبائر، الذهبي، ص(112)].
المجيزون, وهو الراجح:
أ- الحنفية: يرى الحنفية جواز فرض الضرائب على الناس، إذا كانت هناك حاجة تدعو إليها؛ حيث يسمونها النوائب (النوائب: جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان بحق أو بباطل، ونوائب الرعية: ما يضربه السلطان من حوائج على الرعية؛ كإصلاح القناطر والطرق وغيرها) [قواعد الفقه، محمد عميم البركتي، ص(535)]، فقد جاء في حاشية رد المحتار ما نصه: (زمن النوائب ما يكون بالحق؛ كري النهر المشترك للعامة، وأجرة الحارس للمحلة والمُسمى الخفير، وما وظف للإمام ليجهز به الجيوش، وفداء الأسرى، بأن احتاج إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء فوظف على الناس ذلك)، ويتابع فيقول: (وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك) [حاشية ابن عابدين، (2/336-337)].
ب- المالكية: قالوا يحق للإمام أن يوظف الضرائب لظروف خاصة، يقول الإمام القرطبي: (واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها) [الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (2/242)]؛ والمقصود بالمال هنا غير مال الزكاة، وإنما أُخذ من قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]، وقال الإمام مالك: (يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم) [أحكام القرآن، أبو بكر العربي، (1/60)].
ج- الشافعية: يقرون شرعية الضرائب على الأغنياء إذا احتاج الإمام من أجل مصلحة عامة؛ وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: (إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد الإسلام؛ جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند) [المستصفي من علم الأصول، الغزالي، (1/426)].
وفتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام للملك المظفر قطز في فرض الضرائب على الناس لأجل الاستعداد والتجهيز لقتال التتار، (إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا) [النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، أبو المحاسن يوسف بن تغري بردة، (7/72-73)].
د- أما فقهاء الحنابلة: فقد أجازوا فرضيتها وسموها الكلف السلطانية، واعتبروها من الجهاد بالمال، وفي ذلك يقول ابن تيمية في الفتاوى إذ يعتبر أن الكلف السلطانية أو ما يأخذه السلطان من أموال الأغنياء يُعد من قبيل الجهاد بالمال؛ فيقول: (وإذا طلب منهم شيئًا يؤخذ على أموالهم ورءوسهم، مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم، إما على عدد رءوسهم، أو على عدد دوابهم، أو على أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية، كما يُوضع على المتابعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة وغير ذلك، يُؤخذ منهم إذا باعوا، ويُؤخذ تارة من البائعين، وتارة من المشترين) [الفتاوى، ابن تيمية، (30/40-41)].
المستند الشرعي لرأي هذا الفريق:
أ- استدلالهم بالقرآن الكريم:
استدل هذا الفريق بقول الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزّكلمه محظورهاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وجه الاستدلال في الآية الكريمة أن الله تعالى نص على إيتاء الزكاة كما نص على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين؛ مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًا سوى الزكاة، يقول الفخر الرازي: (واختلفوا في المراد من هذا الإيتاء؛ فقال قوم: إنها الزكاة وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزّكلمه محظورهاةَ}، ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة .. وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات) [التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، الرازي، (3/43-44)].
ب- استدلالهم من السنة النبوية؛ استدلوا بما يلي:
1- عن فاطمة بنت قيس قالت: (سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: (إن في المال لحقًا سوى الزكاة)، ثم تلا هذه الآية من سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]) [رواه الترمذي، (661)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، (659)].
2- عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له فضل زاد؛ فليعد به على من لا زاد له)، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر؛ حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل [رواه مسلم، (4614)].
3- عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم قدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إلا إذا جاعوا وعروا مما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله محاسبهم يوم القيامة حسابًا شديدًا، ومعذبهم عذابًا نكرًا) [رواه الطبراني في الأوسط، (3717)، وقال الهيثمي: (ثابت من رجال الصحيح وبقية رجاله وثقوا وفيهم كلام)، مجمع الزوائد، (3/197)].
4- عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس)، وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة [متفق عليه، رواه البخاري، (3581)، ومسلم، (5486)].
ج- واستدلوا بالآثار الواردة عن الصحابة؛ ومن ذلك:
1- ما ورد عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقرائهم)، وبهذا يرى عمر أنه يجوز لولي الأمر أن يفرض على الأغنياء من الصدقات غير الزكاة قدرًا تُسد به حاجة الفقراء، ويُمحى به الفقر من المجتمع، كما ذهب إلى ذلك أبو هريرة وابن عباس وابن عمر وأبو ذر وعائشة وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم [الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، ص(495)، الجامع، القرطبي، (1/241)، المحلى، ابن حزم، (6/225)].
2- وصح عن الشعبي ومجاهد وعطاء وطاوس من التابعين رضي الله عنهم، أن في المال حقًا سوى الزكاة [انظر: المحلى، ابن حزم، (6/225)، الجامع، القرطبي، (1/241-242)، الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، ص(495-496)، فقه الزكاة، القرضاوي، (2/983)]، وهذه الأقوال لم تلق تعارضًا؛ فتكون بمثابة إجماع سكوتي على جواز فرض ضريبة مع الزكاة عند عدم كفايتها لسد حاجات الفقراء.
د- وأما ما يُستدل به من المعقول:
1- مبدأ التكافل الاجتماعي بين الفرد والمجتمع: فالفرد لا يمكن أن يكسب المال بجهده وحده، فلولا جهد المجتمع الذي شق له القنوات، ونظم له الري والصرف، وصنع له أدوات الحراثة والزراعة، وهيأ له الأمن والاستقرار؛ ما كان لجهده أن يؤدي إلى ثمرة، ومن أجل هذا فإن المال الذي يحوزه الفرد ويُنسب إليه هو بمثابة مال الجماعة أيضًا، يُنسب إليها ويجب عليها؛ قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]